طارق عامر محافظ البنك المركزى المصرى
محمد بركه ،، نقلًا عن مجلة المصرفى
· جني ثمار التوجهات التوسعية للسياسة النقدية استهدافًا لمُعدلات نمو فوق 5% سنويًا
·إعادة الاستقرار لسوق الصرف وتحصين "الجنيه" أمام هجمات السوق الموازية بضبط الواردات
·التوسّع الائتماني بعيد عن التركز الطارد لمُبادرات الأعمال والاعتماد على سعر فائدة مرن يحفز القطاع الخاص
· تعزيز ثقة الدائنين والمُستثمرين في الاقتصاد الوطني لجذب تمويل رخيص
الانتقال من 2015 إلى 2016 على الصعيد المصرفى لم يكن بالانتقال السلس، وإنما اضطر الجهاز المصرفى لتقديم الكثير من التضحيات من أجل خروج آمن من براثن 2015، إلى فضاء عام جديد واعد، فقد اضطر إلى تقديم هشام رامز، محافظ البنك المركزى السابق، قربانًا على أعتاب العام 2016 بعد إعلان استقالته أواخر أكتوبر الماضى بعد معركة شرسة مع سوق الصرف والمُتلاعبين بها، ولم تكن ذلك هى التضحية الوحيدة بطبيعة الصراعات والتحديات التى شهدها العام بل كان الأفدح منها فقدان الاحتياطى النقدى من العُملات الأجنبية ما يقرب من 10 مليارات دولار على مدار العام بدون مقابل على أمل استقرار لم يتحقق.
على أن العام المنصرم، وبالرغم من صعوباته على هذا الصعيد شهد فى المقابل العديد من المحطات المُشرقة لعل أهمها نجاح البنوك بقيادة "المركزى" فى تعبئة 64 مليار جنيه خلال 8 أيام عمل فقط لتمويل حفر قناة السويس الجديدة، لهذا نستعرض فى السطور التالية ماذا ترك لنا عام 2015 لنحمله معنا إلى عام 2016 وما إذا كان فى مقدور هذا الأخير تعويض الفرص الضائعة بأخرى واعدة؟!
·محطات 2015 الفارقة
حتى يُمكننا التعرّف على الفرص التى ضاعت فى 2015 ومن ثم تلك التى على 2016 أن يُدركها ولا يسمح لها بالإفلات خلال الأيام والأشهر القادمة لابد أن نسترجع أبرز وأهم المحطات التى مرّت بها السوق المصرفية خلال عام مضى وماذا صنعت بمستقبل هذه السوق.
وسوف نتدرّج فى عرض تلك المحطات من العام إلى الخاص بقدر ما يمثله من أهمية سواء لعموم الاقتصاد الوطنى أو للسوق المصرفية وقطاع التمويل بوجه خاص.
· أولى المحطات: "السياسة النقدية"
اتبع البنك المركزى سياسة نقدية توسعية خلال عام 2015 بوجه عام ولجأ إلى خفض أسعار الفائدة بواقع 0.5% فى بدايته مُعتمدًا على سعر الفائدة كهدف تشغيلى وسيط يواجه به معدلات التضخم والدفاع عن الهدف النهائى للسياسة النقدية وهو العمل على استقرار المستوى العام للأسعار ومحاولة التأثير إيجابًا فى معدلات الاستهلاك الكلى لدفع سوق النشاط الاقتصادى إلى العمل والإنتاج بعد فترة من الركود كشف عنها تراجع معدلات النمو إلى أقل من 1.5%.
وقد أسفرت هذه السياسة التوسعية التى اتبعها البنك المركزى فى 2015 عن نجاح المركزى بالتعاون مع الحكومة فى عدم انفلات معدلات التضخم بالرغم من الأثر التضخمى العارض لمثل هذه السياسات بل ساعدت هذه السياسة فى المقابل على تحفيز النشاط الاقتصادى وزيادة معدلات النمو فوق 3%، وفقًا لخطط الحكومة التى استفادت من جودة أداء البنك المركزى فى تنفيذ إجراءات هذه السياسة التى شجعت بشكل نسبى نشاط الأعمال ليتراجع معدل البطالة بواقع 1.25% منخفضًا من نحو 13.75 إلى نحو 12.5%.
وحافظ "المركزى" فى غالبية قرارات لجنة السياسة النقدية على تثبيت سعر الفائدة خلال غالبية أشهر العام قبل أن يعود فى نهايته إلى رفعها بذات المقدار التى خفضت به وهو 0.5% دعمًا لسعر صرف العملة الوطنية التى تعرّضت لهجمات شرسة من السوق الموازية للعملات الأجنبية خلال النصف الثانى من العام.. هكذا كانت أبرز ملامح المحطة الأولي
· المحطة الثانية: "سعر الصرف"
هذه المحطة بالرغم من أننا نشير إليها فى الترتيب خلف السياسة النقدية، إلا أنها خلال 2015 كانت المحطة الأبرز والأكثر ضجيجًا وخطورة حتى أنها تسبّبت بشكل أو بآخر فى دفع محافظ المركزى السابق "هشام رامز" إلى تقديم استقالته على خلفية تصاعد حدة أزمة سوق الصرف وصدامه مع بعض أطراف السوق.
ولا شك أن أزمة سوق الصرف وفقدان الجنيه رصيدًا لا يُستهان به من قوته الشرائية أمام الدولار الأمريكى خاصة فى النصف الثانى من 2015 هى الأعنف بين أزمات السوق بوجه عام حيث كان سعر صرف الدولار أمام الجنيه قد استهل العام عند متوسط 7.14 جنيه لشراء الدولار داخل السوق المصرفية، وكذا متوسط للبيع بلغ نحو 7.17 جنيه ليصل فى نهاية 2015 إلى نحو 7.80 جنيه للشراء و7.83 جنيه للبيع بارتفاع يقترب من 8.5% خلال العام مثلت فاقدًا كبيرًا أمام الدولار الأمريكى لا سيما أنها جاءت استجابة لضغوط السوق الموازية فى ظل نقص الموارد الدولارية ولجوء الأخيرة للمضاربة على سعر الصرف المعروض من البنوك أمام الطلب المتزايد على العملة الأمريكية بفعل استمرار وتيرة فتح الاعتمادات المستندية وتسرب جانب من حصيلة الصادرات وكذلك تحويلات المصريين العاملين فى الخارج إلى خارج السوق المصرفية التى عانت كذلك من انهيار عائدات السياحة بنسبة تصل إلى أكثر من 50% مقارنة بالحصيلة التى كانت عليها قبل 2011.
رغم هذه العوامل المعوقة لاستقرار سوق الصرف فى مصر، فإن "المركزى" حاول السيطرة على هذه الأزمة بالعمل على وضع إجراءات تنظيمية لسوق الصرف يهدف من ورائها إلى الحد من معدلات الطلب المُتزايدة على العملة الأمريكية، وفتح الاعتمادات المستندية للاستيراد كان أهمها فرض حد أقصى للإيداع الدولارى اليومى بحيث لا يزيد على 10 آلاف دولار وحد أقصى شهرى لا يزيد على 50 ألف دولار للحد من ظاهرة لجوء أصحاب الاعتمادات المستندية من المستوردين إلى السوق الموازية لتوفير الغطاء المطلوب لفتح الاعتمادات والتأثير فى حجم الواردات من جهة أخرى مع الاستمرار فى إعطاء الأولوية داخل البنوك لفتح الاعتمادات للسلع الاستراتيجية إلا أن ذلك لم يُجدِ كثيرًا فى ضبط السوق واضطر البنك المركزى للسماح بخفض تدريجى لقيمة الجنيه فى مواجهة الدولار.
فى ديسمبر من العام المنصرم ومع تغيير القيادة فى البنك المركزى وتولى "طارق عامر" مهام محافظ البنك لجأ المركزى إلى مزيد من الإجراءات التنظيمية التى هدفت هذه المرة للتأثير صراحة فى حجم الواردات الترفية، مع الأخذ فى الاعتبار مُتطلبات مستلزمات الصناعة الوطنية، وكذلك توفير السلع الاستراتيجية على أمل نجاح هذه الإجراءات فى ضبط سوق الصرف خلال الفترة القادمة، وسوف نلقى مزيدًا من الضوء عليها وعلى كيفية إنجاحها عند التعرض للفرص السانحة بهدف الاقتناص وعدم التفريط فيها خلال 2016 لاحقا.
هكذا كانت وقائع هذه المحطة الهامة فى 2015 والتى انتهت بفقدان الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية نحو 10 مليارات دولار ليصل فى نهاية ديسمبر الماضى إلى 16.44 مليار دولار.
· المحطة الثالثة: "التمويل.. والاستدانة المحلية"
بذل البنك المركزى جهدًا ملحوظًا خلال 2015 فى تنظيم سوق الائتمان المحلى بالتركيز على هدفين رئيسيين الأول هو تشجيع الائتمان المحلى بوجه عام لتحفيز معدلات النمو بما يتلاءم والتوجهات التوسعية للسياسة التى انتهجها والثانى هو مساعدة الحكومة فى تلبية احتياجاتها من الإنفاق العام عن طريق الاستدانة المحلية مع الحرص على ضبط معدلات الفائدة على هذه الاستدانة حتى لا ترتفع تكلفة الدين العام المحلى ومن ثم تزداد أعباء عجز الموازنة العامة.
اتفاقًا والحرص على هذين الهدفين لجأ البنك المركزى إلى خفض أسعار الفائدة فى مطلع 2015 وحافظ عليها ثابتة طوال الأشهر الماضية من العام قبل أن يعود إلى رفعها بذات النسبة التى تم بها الخفض فى السابق وهى 0.5%، الأمر الذى شجَّع على إتاحة التمويل من البنوك للنشاط الاقتصادى عند أسعار مستقرة كان من المفترض أن تقود إلى معدلات أعلى من الرواج لولا إحجام القطاع الخاص عن طلب الائتمان من أجل التوسع فى الأعمال والإنتاج على أن هذا الوضع قابله على الجانب الآخر نمو فى الاقتراض العام من جانب الحكومة لمواجهة تنامى أعباء عجز الموازنة، وقامت البنوك بتوفير تلك الاحتياجات عند مستويات مقبولة من الفائدة فى ظل ثبات المستوى العام لأسعار العائد داخل السوق المصرفية وهو ما يمثل نجاحًا للسياسة النقدية ظهرت آثاره فى النصف الثانى من 2015.
فى أغسطس من العام الماضى واجه الجهاز المصرفى تحديًا تمثل فى تدبير التمويل اللازم لأعمال حفر قناة السويس الجديدة وتعبئة تمويل بمقدار 60 مليار جنيه عند مستوى عائد مقبول للاستدانة العامة، حيث تقرَّر حينها طرح شهادات استثمار بسعر عائد بلغ 12% لمدة 5 سنوات، وهو ما قبلت به هيئة قناة السويس المستفيد من طرح هذه الشهادات وهى هيئة عامة، وفى ذات الوقت مثل العائد تعويضًا مناسبًا للمُكتتبين من أصحاب المدخرات، وقد أثبت رفع سعر العائد على الشهادات الثلاثية المُتميزة التى طرحتها البنوك العامة فى نوفمبر من العام نفسه لدعم ثقة المُدخرين فى العملة الوطنية عند مستوى عائد بلغ 12.5% سلامة تقديرات السلطة النقدية / البنك المركزى فى إدارة أسعار الفائدة بعد ما تجاوزت حصيلة هذه الشهادات فى نهاية العام 100 مليار جنيه تراوحت بين تغيير المدخرين لأوعية ادخارتهم إلى هذه الشهادات، وتنازلات عن الأوعية الادخارية بالعملات الأجنبية، ودخول مدخرات جديدة إلى السوق المصرفية.
فيما يتعلق بالتمويل الأجنبى، واصلت البنوك فتح الاعتمادات المستندية وفق أولويات صارمة، كما قدّمت تمويلات بالنقد الأجنبى لمشروعات استراتيجية، ولكنها مثلت نصيبًا محدودًا من إجمالى التمويلات المحلية التى كانت غالبيتها بالعملة المحلية، وكانت أسعار العائد عليها مُتوافقة مع المتوسطات العالمية المقبولة.
أما فيما يتعلق باللجوء إلى التمويلات الخارجية من جانب الحكومة، فلم يكن لها وجود مؤثر واقتصرت على بعض القروض والتسهيلات المُيسرة التى حصلت عليها مصر من بعض دول الخليج، وكان الحدث الهام على هذا الصعيد هو لجوء الحكومة إلى طرح سندات دولارية فى الأسواق العالمية بقيمة 1.5 مليار دولار بأجل 10 سنوات بسعر فائدة بلغ 360 نقطة فوق مستوى سعر العائد على سندات الخزانة الأمريكية فى منتصف العام، وقد لاقت إقبالًا ملحوظًا من المستثمرين الأجانب لفت إلى إمكانية اللجوء مرة أخرى إلى هذه الأداة، وهو خيار محتمل بعد الربع الأول من 2016 طبقًا لما كشفت عنه وزارة المالية.
ويمثل هذا الشق من التمويل تأكيدًا على وحدة الرؤية العامة للدولة على الصعيدين النقدى والمالي.
·المحطة الرابعة: "الالتزامات الدولية والخارجية"
تميّز أداء الحكومة فى عام 2015 تجاه الالتزامات الدولية وسداد مُستحقات الدائنين من دول ومؤسسات وكذلك دول نادى باريس، بالانضباط، حيث قامت بسداد نحو 3 مليارات دولار لدولة قطر، وإن كانت قد حصلت فى المقابل على 6 مليارات دولار من دول السعودية والإمارات والكويت، ولكنها على وجه العموم قابلت التزاماتها الدولية بالانضباط المطلوب للحفاظ على ثقة الدائنين، وبالرغم من ارتفاع الدين العام نحو مليارى دولار فى نهاية العام المالى 2014/2015 بنهاية يونيو الماضى، إلا أن حرص "المركزى" و"المالية" على سلامة هذا الأداء بالحرص على سداد أعباء خدمة هذه الديون، وكذلك سداد العائد على السندات الدولارية التى طرحت فى الأسواق العالمية، رغم ارتفاع العائد عليها، نتيجة رفع سعر العائد من جانب الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى من 360 نقطة فوق هذا السعر عند الطرح إلى 580 نقطة فى الفترة التالية على قرار الاحتياطى الأمريكي.
وتمثل هذا الأداء المنضبط فى وصول الدين العام الخارجى لمصر إلى نحو 16.3% من الناتج المحلى الإجمالى وهو متوسط يقل عن المتوسطات السائدة لدى الدول الناشئة بنحو 3% على الأقل كما أن مستوى الدين قصير الأجل إلى إجمالى الدين العام، وفقًا لوزارة المالية بلغ نحو 7.9%، مما يقل من مخاطر هذه الاستدانة، يضاف إلى ذلك نجاح الحكومة والبنك المركزى بالتعاون مع البنوك فى سداد أكثر من 3 مليارات دولار من إجمالى مستحقات بلغ 6.3 مليار دولار، وجارٍ سداد المبلغ الباقى فى الوقت الذى قام فيه البنك المركزى حتى ديسمبر الماضى بسداد كافة مستحقات المستثمرين الأجانب بالبورصة، وهو ما يمثل إجمالًا انضباطًا واضحًا فى إدارة هذا الملف.
وقد كان هذا الأداء سببًا فى تحسن التصنيف السيادى للاقتصاد الوطنى من قبل مؤسسات التقييم الدولية التى تصدّرتها مؤسسة "ستاندرد آند بورز" العالمية فى شهر مايو الماضى بتقييم إيجابى عن الاقتصاد المصرى، حيث قامت برفع مستوى النظرة المستقبلية للاقتصاد من "مستقر" إلى "إيجابى" فى الوقت الذى أبقت فيه على تصنيفها لديون مصر القصيرة وطويلة الأجل بالعملة المحلية عن –Bوبالعملة الأجنبية عن Bليكون ذلك بمثابة شهادة دولية بسير الاقتصاد الوطنى فى المسار الصحيح بعد سلسلة من التقلبات.
هذا الوضع فى مجمله يمثل إضافة حقيقية لجاذبية المناخ الاستثمارى أمام المستثمرين الأجانب، كما أنه يعمل على تخفيض تكلفة الاستدانة الدولية من الأسواق العالمية بما يمثله ذلك من دعم لسياسات الصرف التى ينتهجها البنك المركزي.
هكذا كانت المحطات الفارقة فى مسيرة الاقتصاد الوطنى والسوق المصرفية خلال 2015، والتى يمكن استخلاص الفرص المتاحة أمام كليهما من خلال الدروس المستفادة فى المحطات السابقة حتى لا تضيع مُجددًا.
· فرص من أجل الاقتناص فى 2016
حسب ما تقدّم، هناك عدد من الفرص المؤكدة فى مجال السياسات المصرفية والنقدية ينبغى على صانع القرار الانتباه لها وعدم التفريط فيها والعمل على إنضاجها واستثمارها.
فى هذا الصدد نحن أمام 4 فرص بالغة الأهمية سنتعرّض لها تباعًا.
·أولًا: تأكيد التوجّه "التوسعى" للسياسة النقدية
واحد من الدروس المستفادة لـ 2015 يتمثل فى ضرورة إبراز الطابع والتوجه التوسعى للسياسة النقدية، وهو ما يعنى العمل على تشجيع منح الائتمان للقطاعين العام والخاص، لأن معدلات النمو تعتمد على نشاط كلا المسارين، والتركيز على تحفيز القطاع الخاص للاستثمار من خلال تيسير منح الائتمان والحد من تكلفة الاقتراض بعد ما طغى على 2015 توجيه النصيب الأكبر من الائتمان بالجهاز المصرفى لتمويل أدوات الدَّين العام وهو أمر "محمود"، أدى دوره الاستراتيجى العام الماضى لتحريك السوق، وأصبح لزامًا على الجهاز المصرفى خلال عام 2016 منح أولوية لتمويل القطاع فى ظل تنامى أرصدة الودائع ومحدودية نسبة القروض بالقياس إليها، حيث مازال متوسط نسبة القروض إلى الودائع يراوح عند 43%.
وبذلك فإن أهم أولويات تأكيد التوجه التوسعى للسياسة النقدية هو زيادة حجم الائتمان المُوجَّه للقطاع الخاص حيث سيعنى ذلك مباشرة التوسع فى حجم الأعمال والنشاط الاقتصادى وبالتالى عرض فرص العمل وزيادة معدلات الاستهلاك الكلى العام والخاص بالتوازى، مما ينعكس أثره على معدلات التحسن الملموس.
وإذا كانت السوق المصرفية قد نشطت خلال 2015 فى تقديم خدمات التجزئة المصرفية، توافقًا مع هذه السياسة بما انعكس أثره على تحسن معدلات الاستهلاك، فإنها مطالبة بالاستمرار فى هذا المنحى خلال 2016 لخلق طلب فعّال بالسوق مع استكمال تنشيط الاتجاه الموازى عن طريق التوسع فى منح الائتمان لخلق عرض كلى مُتوافق مع معدلات الطلب.
وقد بادر البنك المركزى فى مطلع العام إلى وضع إجراءات جديدة لتحفيز البنوك على تقديم التمويل للمشروعات الصغيرة والمتوسطة التى ينتظر أن يعول الاقتصاد الوطنى عليها فى زيادة معدلات نمو الناتج المحلى طبقًا لخطط الحكومة، حيث أوضح "المركزى" أنه سوف يوجه البنوك إلى زيادة نسبة القروض الموجهة إلى هذا القطاع لتصبح 20% من إجمالى محافظ إقراضها خلال السنوات الأربع القادمة بإجمالى تمويل يصل خلال هذه الفترة إلى 200 مليار جنيه ينتظر أن تقدم نحو 4 ملايين فرصة عمل خلال الفترة الزمنية المشار إليها وبواقع مليون فرصة عمل جديدة سنويًا وهى ترجمة سليمة للتوجّه التوسعى المطلوب للسياسة النقدية.
وتمثل هذه الطفرة فى إقراض قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة فرصة حقيقية ينبغى اغتنامها خلال 2016، وإذا ما تم انتهازها فسوف يكون لها أثر حاسم فى تحفيز معدلات النمو وزيادتها إلى الحدود الكفيلة بتقليص أعباء عجز الموازنة.
فى سياق هذا التوجّه سيكون على "المركزى" عدم السماح بارتفاع معدلات التضخم إلى الحد الذى يمكن أن يُهدّد استقرار المستوى العام للأسعار، وبذلك يكون "المركزى" قد حافظ على عدم إفلات هذه الفرصة فى 2016 بعد أن ضاعت فى العام الماضي.
·ثانيًا: الوصول إلى سعر صرف عَادل ومَرن
إحدى الفرص التى ضاعت فى 2015 ولا ينبغى أن يتم إهدارها مرة أخرى فى 2016 هى فرصة استقرار سوق الصرف ووقف انهيار القيمة السوقية "الجنيه"، بل لعل هذه الفرصة هى الأهم فى سلسلة التحديات التى يُواجهها البنك المركزى خلال العام، ولتحقيق هذا الهدف واقتناص هذه الفرصة، لابد أن يواصل صاحب السلطة النقدية إصدار الإجراءات التنظمية التى من شأنها الحد من الطلب على الدولار وزيادة الموارد المتاحة منه وصولًا إلى سعر صرف عادل ومرن.
وتقول المؤشرات الأولية إن البنك المركزى بقيادة "طارق عامر" يمضى فى الاتجاه الصحيح حيث بدأ فى نهاية الشهر الأخير من 2015 فى ضبط سوق الاستيراد بهدف الحد من الاستيراد الترفى المُنفلت وعدم السماح للمستوردين بفتح اعتمادات لذات السلعة فى عدة بنوك خلال نفس الفترة وإلزام المستوردين بأن يكون التعامل مع الموردين الأجانب ما بين بنكى الطرفين لضمان توقيت فتح الاعتماد على الجانبين وهو ما ينتظر أن يعمل على تنظيم وضبط احتياجات السوق من النقد الأجنبى لعدم خلق ضغوط وهمية تستغلها السوق الموازية.
وسيكون على "المركزى" وصولًا إلى هدف استقرار أسعار الصرف، العمل فى المستقبل، وخلال أشهر العام القادمة، على عدم تسرب تحويلات المصريين العاملين بالخارج بعيدًا عن السوق المصرفية وزيادة حجم التنازلات عن النقد الأجنبى بالسوق للجهاز المصرفى، لأن هذا هو التحدى الأهم الذى يضمن عرضًا مرنًا للدولار الأمريكى يتماشى مع نمو الطلب أو تراجعه وتزايد الاعتماد على تمويل احتياجات البنوك من النقد الأجنبى فيما بينها بالاعتماد على تعاملات الإنتربنك.
ويتابع البنك "المركزى" -من خلال نائب المحافظ جمال نجم- تطوّرات السوق يومًا بيوم ليكون قريبًا من التدخل السريع بعد عرض الأمر على طارق عامر، محافظ البنك، الذى حرص على إرسال رسالات طمأنة إلى أطراف السوق والحرص على التنسيق معها، تفاديًا لأى إجراءات مُفاجئة قد تأتى بآثار عكسية، حيث يحرص على الاتصال بمجتمع الأعمال دوريًا سواء اتحاد الصناعات أو جمعية رجال الأعمال والغرف التجارية أو من جهة أخرى استكمال التنسيق مع الحكومة ووزراء المجموعة الاقتصادية عبر المجلس التنسيقى للسياستين النقدية والمالية.
ويستعد "المركزى" ما بين الحين والآخر -وبالتوازى مع مزادات طرح الدولار الأسبوعية- لتوجيه صدمات عرض السوق بطرح كميات كبيرة من العُملة الأمريكية للبنوك لتقليص اللجوء إلى السوق الموازية لتدبير النقد الأجنبى اللازم لفتح الاعتمادات ويتوقع أن يُحقق "المركزى" نجاحات قريبة فى ضبط السوق والوصول إلى سعر صرف عادل للدولار أمام الجنيه يتسم بالمرونة الكافية لتحقيق هذا الهدف.
·ثالثًا: استهداف سعر فائدة "تشغيلي"
إحدى أهم الفرص التى يسعى "المركزى" لانتهازها فى 2016 هى الاستفادة من إدارة سعر الفائدة داخل السوق لتشجيع الطلب على الائتمان من جانب القطاع الخاص، والعمل من جهة أخرى على خفض تكلفة الاستدانة العامة على الحكومة التى تقود حاليًا الإنفاق الاستثمارى داخل السوق إلى حيث استنفار القطاع الخاص للقيام بدوره كاملًا.
واتفاقًا مع هذا التوجّه والطابع التوسعى العام للسياسة النقدية، يُنتظر أن يسعى "المركزى" إلى الحد من ارتفاع أسعار الفائدة الدائنة والمدينة من جانبه مع السماح لفترة من الوقت بأوعية ادخارية ذات أسعار فائدة مميزة تقود البنوك العامة توجيهها داخل السوق لتعبئة المزيد من المُدخرات ومساندة إجراءات دعم العُملة الوطنية بصورة غير مباشرة تتراجع بعد تحقيقها لأهدافها، تاركة للمستوى العام الذى سيميل إلى الثبات تدريجًا لتشجيع الاستثمار.
ويُراهن "المركزى" فى استهدافه للمستوى الحالى من أسعار الفائدة على فروق سعر الصرف ما بين الجنيه والعملات الدولية الرئيسية والتى تجعل من ارتفاع هامش سعر الفائدة فى حدود 0.5% فوق المتوسطات السائدة عارضًا فى تأثيره على الهدف التشغيلى للسياسة النقدية والذى يضمن استمرار جاذبية المناخ الاستثمارى ونشاط قطاع الأعمال.
وينتظر أن يشهد عام 2016 نجاحًا أكبر للبنك المركزى فى سياسته التوسعية الهادفة إلى زيادة معدلات النمو، مُستفيدًا من جودة إدارة أسعار العائد والفائدة بالتوازى، مع ضمان الحفاظ على المستوى العام للأسعار ومواجهة التضخم وعدم السماح بارتفاع معدل التضخم الأساسى تحديدًا الذى يمثل خطًا أحمر لهذه السياسة يحرص "المركزى" على تقدّمها دون تهديد جدّى له.
·رابعًا: الاستفادة من الثقة الدولية فى إتاحة "التمويل الخارجي"
لم تلجأ الحكومة إلى الاستدانة الخارجية من مؤسسات التمويل الدولية ولجأت فقط إلى طرح سندات سيادية بالدولار فى الأسواق الخارجية خلال 2015، ويسعى البنك المركزى من خلال أدائه فى مُجمل المجالات السابقة إلى استثمار الأثر الإيجابى لوفاته بالتزاماته الخارجية من أقساط ديون وحقوق حاملى السندات وكذلك تحسّن تصنيف الجدارة الائتمانية للاقتصاد الوطنى فى العمل على إتاحة فرص تمويل أقل تكلفة فى الأسواق الدولية أو من جانب الدول الدائنة للمساعدة فى تمويل عجز الموازنة أو الإنفاق الاستثمارى للحكومة، وما تم إنجازه خلال 2015 يعطى مؤشرات إيجابية على تزايد فرص نجاح "المركزى" بالتعاون مع الحكومة فى تحقيق هذه الهدف.
يُنتظر من "المركزى" خلال 2016 أن ينجح كذلك فى زيادة تدفق الاستثمار الأجنبى المباشر إلى الداخل، ليحقق ما لم يستطع تحقيقه فى العام الماضى عبر طريقين الأول: العمل على ضمان تدفق تحويلات عائدات الاستثمارات الأجنبية إلى الخارج.. والثانى: استقرار سوق الصرف حتى لا تؤدى تقلباتها إلى ابتلاع تلك العائدات، وبالتالى إحجام المستثمرين عن دخول السوق المحلية.
تلك هى الصورة العامة للفرص المطلوب اقتناصها فى 2016 واحتمالات النجاح المُتاحة أمام البنك "المركزى" وأمام صنّاع السياسة الاقتصادية بوجه عام.